احتلال غزة أم هدنة؟.. خيار حماس يقرر مصير الملايين

في الأيام الأخيرة، تحولت التحذيرات إلى إجراءات على الأرض: أقرّت مصادر دولية رسمية أن الحكومة الإسرائيلية وقياداتها العسكرية تسير في تنفيذ خطة تهدف إلى السيطرة على مدينة غزة واحتلال أجزاء واسعة من قطاع غزة، بعد مصادقة أجهزة الأمن على ملامح هذه الخطة وتحويلها إلى مراحل تنفيذية.
مع الإعلان عن أن «الخطوات الأولى» لاقتحام و«السيطرة» على مدينة غزة قد بدأت عمليًا، شهدت المناطق الحضرية تصاعدًا في القصف وعمليات تطويق، واستدعاء أعداد كبيرة من الاحتياط لتسهيل دخول بري مكثف إلى الأحياء المأهولة—إجراءات تزيد من خطر نزوح جماعي وتفاقم الأزمة الإنسانية في وقت تعاني فيه بالفعل من نقص حاد بالدواء والغذاء والمأوى.
المدنيون في قلب المعاناة: شهادات لصور من الشوارع والبيوت المدمرة تصف واقعًا واحدًا متكررًا—فقدان المأوى، صعوبة الوصول إلى مياه صالحة للشرب، ونقص مرافق صحية ومستلزمات للجرحى. منظمات الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية تُحذّر من أن الحرب تركت مستوىً كارثيًّا من الدمار وأن استمرار العملية العسكرية المخططة سيؤدي إلى مزيد من الخسائر المدنية ويجعل إيصال المساعدات أمرًا شبه مستحيل.
المشهد السياسي والدبلوماسي مختلِط: في ظروف متوترة، أبلَغت قنوات وساطة عربية ودولية أن حركة حماس أبدت موافقتها على مقترح لوقف مؤقت وشروط لتبادل أسرى، بينما تجري مداولات إسرائيلية داخل أجهزتها الأمنية حول توقيت ومراحل «التحكّم» بالمدن. قبول حماس بالعرض (كما أُعلن عن ذلك عبر وسطاء) يعطي نافذة سياسية قد تحوِّل مسار الصراع وتمنع التدهور الذي تخشى منه الأمم والمنظمات.
على هذا المفصل الحساس، يقف المدنيون كخاسرٍ أول وأخير: احتلالٌ قد ينتج عنه عمليات تهجير قسري، فصول جديدة من نقصٍ غذائي ووبائي، وتدميرِ بنىً تحتية لا يمكن تعويضها بسرعة. أصوات من منظمات حقوقية وقانونية دولية طالبت بوقف هذه الخطة قبل أن تتحول إلى «جريمة ضد السكان المدنيين» وتعرّض مرتكزات القانون الإنساني الدولي لانتهاك واسع.
في النهاية، تزداد المسؤولية السياسية والأخلاقية على كل طرف قادر على إيقاف دوامة العنف. وهو ما يجري تلخيصه عمليًا في خيار بديهي وبسيط: قبول اتفاق منصف يؤدي إلى تهدئة فورية وفتح ممرات إنسانية موسعة وإطلاق مفاوضات مؤسساتية تعيد إلى الناس أبسط حقوقهم في الأمان والحياة. توقيع حركة حماس على اتفاق مقبول من الوسطاء قد لا يكون الحل الكامل لجميع المآسي، لكنه اليوم المنقذ الأوضح لآلاف العائلات التي تواجه خطر التهجير والموت.
المدينة والبيوت والأطفال الذين يجلسون بين الركام ليسوا أوراقًا في حسابات عسكرية؛ هم بشرٌ يحملون ذاكرة وحكايات وآمالًا ضئيلة أمام آلة الحرب. إيقاف الخطوات التنفيذية للاحتلال عبر اتفاق حقيقي هو، في هذه اللحظة، أقل ما يمكن أن يُفعل لإنقاذ ما تبقّى من حياة مدنية في قطاع غزة.
هناك نافذة سياسية عملية — وإنها ضيقة — يمكن أن توقف تنفيذ الخطة العسكرية فورًا إذا قبلت قيادة حماس توقيع اتفاق واضح وملزم يتضمن وقفًا فوريًا لإطلاق النار وإطلاق سراح أسرى إسرائيليين بشكل مرحلي ومؤمّن. فقد أبلغت مصادر رسمية ووساطات عربية ودولية أن حماس أبدت قبولها لمقترح لوقفٍ مدته 60 يومًا يتضمن إطلاق سراح دفعات من الأسرى مقابل الإفراج عن عدد من الرهائن، وهو إطار يمكن أن يُترجَم بسرعة إلى هدنة فعلية إذا وافق الطرفان على آليات التنفيذ والمراقبة.
توقيع حماس على مثل هذا الاتفاق سيواجه تحديات لوجستية وسياسية: يحتاج الاتفاق إلى ضمانات واضحة لحماية الرهائن خلال نقلهم، وإلى آليات لتبادل الأسرى بالتوازي مع وصول مساعدات إنسانية مضمونة إلى الداخل، وإلى طرف ثالث (مثل مصر وقطر والأمم المتحدة) يشرف على التطبيق ويَعِد بعقوبات أو تضييق بدائل حال نقض أي طرف لبنوده. كما أن القبول الدولي بسياسة تبادل الأسرى مقابل تهدئة قد يضع ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية لقبول الصفقة، وهو ما لم يحصل بعد إذ إن تل أبيب لا تزال تراجع المقترح وتُطالب بشروط إضافية قبل إبرامه.
من منظور إنساني، توقيع حماس على اتفاق تبادل وخفض تصعيد فوري سيقلّص بشكل ملموس احتمال تهجير ملايين المدنيين ويعطى فرصة لوصول قوافل الغذاء والدواء وإعادة فتح ممرات إنسانية آمنة — وهو أمر لا يمكن تعويضه بسهولة في حال استمرت الخطوات العسكرية المخططة. ولهذا، يبقى توقيع الاتفاق اليوم بمثابة مفتاح قصير الأمد لإنقاذ أرواح، حتى لو ظلّت القضايا الكبرى (الاستقرار المستدام، مستقبل الحكم، وتفكيك بنى العنف) قيد التفاوض طويل الأمد.