خدع قوات هتلر.. حكاية طبيب مصري أنقذ فتاة يهودية من محرقة النازيين

خدع قوات هتلر.. حكاية
خدع قوات هتلر.. حكاية طبيب مصري أنقذ فتاة يهودية من محرقة ال

ذات يوم من عام 1943، تلقى الطبيب المصري محمد حلمي، أمر استدعاء مرعب، حيث تم اقتياده مع ابنة شقيقته نادية، إلى فندق Prinz Albrecht، مقر قوات الأمن الخاصة النازية في برلين.

وعندما وصلا، اقتيد حلمي ونادية إلى غرفة بها حشد من عشرات الرجال، وكان وسط هؤلاء يقف أمين الحسيني، مفتي القدس المعاد للسامية والمؤيد للنازية، والذي كان ضيف شرف الرايخ الثالث على مدى العامين الماضيين وأبرز رمز لجهود هتلر لمغازلة العالم الإسلامي.

وفي هذه الأثناء، اكتشف حلمي الذي لطالما وثق به النازيين، سبب الاستدعاء غير المبرر، إذ كان مطلوبًا منه أن يقدم لأخوانه المسلمين الرعاية الطبية، لكن كما كتب الصحفي الألماني رونين ستينكي في كتابه، فإن اللقاء كشف المفاجأة - حيث إن الطبيب لم يكن متعاطفًا مع النازية، والمراهقة التي كانت ترافقه لم تكن ابنة اخته ولا مسلمة، بل كانت آنا بوروس الفتاة اليهودية التي أواها "حلمي" سرًا في بيته.

ويعتبر كتاب "آنا والدكتور حلمي: كيف أنقذ طبيب عربي فتاة يهودية في برلين هتلر" هو سرد مثير لقصة رائعة ولكنها غير معروفة إلى حد كبير تكشف شجاعة المصري محمد حلمي.

وحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، وصل حلمي، وهو نجل رائد بالجيش المصري، إلى برلين عام 1922 لدراسة الطب، وبعد 10 سنوات، كان لا يزال في العاصمة الألمانية، بعد أن أصبح راعيًا للمستشار اليهودي البارز البروفيسور جورج كليمبيرر الذي عمل تحت إشرافه في مستشفى روبرت كوخ المرموق في موآبيت.

في الأول من أبريل عام 1933، كان من بين الآلاف من ضحايا النازيين العديد من أطباء "ثلثيهم من اليهود"، إلا أن حلمي لم يكن مستهدفًا في هذا التطهير، واستفاد من سوء حظ اليهود، وازدهر مهنيًا.

كان وقتها يبلغ من العمر 31 عامًا، وتمت ترقيته من طبيب مبتدئ إلى استشاري أول، وحسب ما ذكره ستينكي في مقابلة مع "تايمز أوف إسرائيل" فإن النازيين "كانوا يمنحونه هذه الامتيازات ويجعلونه شريكًا لأنه لم يكن معارضًا تمامًا للنظام.. فلم يكن في البداية شخصًا سياسيًا".

كما كان من المؤكد أن رؤساء حلمي في المستشفى كانوا ينظرون إليه على أنه ــ على أقل تقدير ــ ليس معاديًا للنازيين.

وقال تقرير صدر عام 1934: "على الرغم من كونه مصريًا، إلا أن سلوك حلمي أظهر موقفًا مؤيدًا لألمانيا"، ومن هنا عكست قدرة الطبيب المصري على الازدهار في برلين النازية محاولة الرايخ الثالث الأوسع للوصول إلى الشرق الأوسط والعالم العربي - وربما بناء تحالفات ضد بريطانيا وفرنسا هناك.

وفي وقت مبكر من عام 1934، وصف مشرف حلمي في مستشفي “موابيت” تعيينه بالمستشفى بأنه "مرغوب فيه للغاية لمصالح الألمان في الخارج".

لكن بمرور الوقت، أصبح حلمي سياسيًا أكثر وبدأ ينقلب بشكل حاسم ضد النازيين، وكان مصدر استيائه من هذا النظام هو زملائه الأطباء الجدد المعينين من قبلهم، حيث يتم اختيارهم لولائهم بدلًا من خبرتهم، ليظهروا مزيجًا مذهلًا من القسوة وعدم الكفاءة تجاه مرضاهم، ومع تدهور سمعة “موابيت”، كان سائقو سيارات الإسعاف ينصحون المرضى بتجنب دخول هذا المستشفى.

كان حلمي فخورًا بمؤهلاته الأكاديمية وشعر بالإهانة المهنية، ولم يتردد في انتقاد الأطباء النازيين عديمي الخبرة.

وكما قال أحد كبار الاستشاريين بغضب: "لم يكن لدى حلمي أي ندم بشأن الإضرار بسمعة الأطباء الألمان أمام المرضى وطاقم التمريض"، إلا أنه تمسك بمنصبه فقط من خلال مناشدة وزارة الخارجية الألمانية، التي حثت المستشفى على إبقائه "لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية".

كان النازيون يعتقدون أن حلمي كونه مسلمًا، سيقف إلى جانبهم ضد اليهود، لكن كما كتب ستينكي، فإن الطبيب المصري "دمر خطتهم"، إذ كانت دوافعه إنسانية لإنقاذ المرضى.

من بين المرضى اليهود الذين زارهم حلمي أثناء وجوده في "موابيت" كانت عائلة آنا بوروس الثرية، التي أتت إلى برلين من موطنها الأصلي المجر، إذ أدارت هي ووالدتها متجر بقالة، لكنه تعرض للقوانين المعادية لليهود وقيود الاستيراد قبل أن يصبح للبيع مقابل أجر زهيد في يونيو 1939.

سرعان ما بدأ حلمي بمساعدة آنا، التي أحبط النازيون آمالها في أن تصبح ممرضة أطفال، وعلموها كيفية تحليل عينات الدم والبول تحت المجهر.

وعندما اندلعت الحرب، سُجِن حلمي وعدد من رفاقه من قبل النازيين على أمل استخدامهم كوسيلة ضغط على البريطانيين، الذين كانوا يحتجزون مواطنين ألمان في مصر وفلسطين وجنوب إفريقيا.

إلا أن “حلمي” وبتكتيك استراتيجي، أقنع النازيين أنه سيلعب دور العربي المثالي الموالي لهم كما تصوره مكتب دعاية جوبلز، فمن زنزانته، أعلن الطبيب إلى هتلر وغيره من القادة النازيين، ولائه للقضية. وادعى أنه قام "بحملة نشطة" للنازيين منذ عام 1929، وتعرض للقسوة بسبب معتقداته في عام 1931، كما أشار إلى أن رؤسائه اليهود في موابيت أجبروه على العمل بدون أجر حتى عام 1933 ومنعوه من أن يصبح طبيبًا بسبب معاداة السامية.

وأقنع حلمي بالفعل وزارة الخارجية بالإفراج عنه وعن سجين آخر لمدة 30 يومًا حتى يتمكن من استخدام "نفوذه وعلاقاته" في مصر لتأمين الإفراج عن الأسرى الألمان في القاهرة.

وحسب ما ذكره ستينكي في كتابه، فشل حلمي بالطبع في هذه المهمة - لم يكن لديه "نفوذ واتصالات" في مصر للاستفادة منها - لكن يبدو أن النازيين "غضوا الطرف عما فعله الطبيب"، وعندما تم إطلاق سراحه في مايو 1940، يبدو أن تمثيليته قد تم قبولها من قبل الألمان، الذين أعطوه تدريبًا خاصًا به في منطقة شارلوتنبورج الراقية.

ولكن مهارة حلمي، حسبما أكد ستينكي، كانت مهمة لإنقاذ حياة آنا وجدتها سيسيلي رودنيك، عندما تلقت الأخيرة رسالة في مارس 1942 تطلب منها الحضور إلى كنيس موابيت حيث تم إنشاء معسكر للمساعدة في ترحيل يهود برلين، فلجأت إلى الطبيب للحصول على المشورة، ليحثها على الفرار ثم رتب مكانًا للاختباء مع مريض سابق موثوق به.

لكن قرار سيسيلي أرعب زوج أم آنا، جورج وير، الذي لم يكن يهوديًا وكان يعتقد أن الأسرة يجب أن تلتزم بالقواعد وتتجنب جذب انتباه النازيين، لكن حلمي هدأه وأقنعه في النهاية.

كما تذكرت آنا لاحقًا: "كان الطبيب يخاطر بحياته من أجل الأسرة. سواء كان الأمر يتعلق بمعالجة الأمراض أو البحث عن أماكن جديدة لاختبائهم أو الالتفاف على القواعد، فكان عليه أن يواصل البحث عن حلول جديدة عكس زوج أمها".

على عكس والدتها وجدتها اللتين حصلتا على الجنسية الألمانية من زوجها الثاني، استمرت آنا، التي ولدت في مدينة أراد على الحدود مع المجر، لديها جواز سفر روماني. ولفترة من الوقت، حماها هذا الجواز من أسوأ تجاوزات النازيين.

ولكن في مارس 1942، أُمر اليهود الأجانب بالخروج من ألمانيا وأعطيت آنا ثلاثة أيام للعودة إلى رومانيا، لكن الأمر كان مستحيلًا، ولعجز عائلتها عن مساعدتها، لجأت الفتاة إلى حلمي.

عندما تم إبلاغ الجستابو “البوليس السري الألماني”، أن آنا تركت الرايخ وفقًا للتعليمات، بدأت "نادية" - اسم اقترحه حلمي - العمل كموظفة استقبال للطبيب، حيث أبلغ الأخير الألمان أنها ابنة أخته وتعمل معه، لإنقاذها من مجزرة ومحرقة النازيين.

وحسب “ستينكي”، يبدو أن آنا كانت تنظر إلى حلمي على أنه "أب بديل" أو بمثابة "عم".

بعد ذلك انتقلت آنا للعيش مع حلمي وخطيبته، الممرضة إيمي إرنست، وساعدتها في المطبخ والأعمال المنزلية.

وعلى الرغم من الوضع المحفوف بالمخاطر الذي وجدا نفسيهما فيه، بذل الطبيب وآنا قصارى جهدهما لمساعدة الآخرين، سواء ألمان عاديين أو يهود.

كما ذهب حلمي إلى أبعد من ذلك، ففي يونيو 1943، رتب قصة اعتناقها الإسلام وبالتالي ساعدها في الحصول على أول وثيقة رسمية لها، وبعد أسبوع، اتصل حلمي بصديق مصري يدعى عبد العزيز حلمي، الذي التقى به في السجن ووثق بأنه مناهض قوي للنازية، وذلك للزواج من نادية.

ولضمان صحة الزواج بموجب الشريعة الإسلامية، أحضر حلمي أيضًا صديقين آخرين ليكونا شاهدين على العقد الورقي، الذي سيمكن “آنا” أو “نادية”، من الحصول على جواز سفر مصري، مما يسمح لها بمغادرة ألمانيا بشكل قانوني ومن ثم السفر إلى فلسطين.

لكن الخطة فشلت في النهاية، فرفض مكتب التسجيل المحلي طلب الزواج عندما قدمه حلمي للموافقة عليه و- للاشتباه في أن شيئًا ما كان غريبًا - فتش الجستابو مرتين شقة الطبيب، وسأل مرارًا وتكرارًا القائم بأعمال المبنى عما إذا كان يعلم بوجود فتاة يهودية.

في هذا الوقت، كان حلمي يقوم بنقل آنا في أماكن كثيرة، قبل أن يستقر بها في كوخ حديقة تمكن من الوصول إليه على الحافة الشمالية لمنطقة بانكوف.

لكن الجستابو كشفوا مكان آنا الجديد، إلا أن الطبيب المصري كان قد فكر مسبقًا باحتمالية هذا الأمر، إذ استخدم حيلة جديدة لإنقاذها، وهي إبلاغ ضباط البوليس السري الألماني بأنه كان ضحية خداع رهيب من قبل الفتاة التي كانوا يبحثون عنها.

وأدعى أن الفتاة التي تدعى "نادية" اختفت من منزلها ولم تترك سوى رسالة فبركها “حلمي”، بأنها تعترف له بأنها "كذبت عليه بشأن قرابتها له" وأنها في الحقيقة ليست مسلمة، بل يهودية.

وكشفت أيضًا أنها ستغادر إلى منزل خالتها في ديساو، ليطالب حلمي الضباط بالعثور على الفتاة التي خدعته، ليبعد عنها الأنظار لفترة كبيرة، وينقذ حياتها وحياته التي لم يفكر فيها.

في عام 1960، قدمت آنا، التي هاجرت إلى الولايات المتحدة بعد الحرب، إفادة خطية تطلب فيها تكريم حلمي، مؤكدة أنه كان "إنسانًا رائعًا" لم يطلب أبدًا الامتنان لشجاعته في زمن الحرب.

وفي عام 2013 أعلنت تل أبيب تكريمها للطبيب المصري قائلة إنه سيصبح العربي الوحيد الذي يمنح وسام يحمل اسم «الشرفاء بين الأمم»، لكن أسرة حلمي رفضت، استلام أي تكريم من إسرائيل، لرفضهم الاحتلال.

يذكر أن حلمي توفى في برلين عام 1982، ولم ينجب من زوجته أطفال، فيما توفيت هي الأخرى عام 1998.