جعان يامّا بَدي آكل.. تفاصيل مؤلمة في استشهاد الطفل يوسف بغزة

جعان يامّا بَدي آكل..
جعان يامّا بَدي آكل.. تفاصيل مؤلمة في استشهاد الطفل يوسف بغز

دائما ما تحمل الحروب قصصا مؤلمة تدمي القلوب، وتقشعر لها الأبدان، وفي غزة آلاف القصص من تلك النوعية، حيث يعيش قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الجاري، تحت قصف إسرائيلي لم يهدأ على المنطقة المكتظة أصلا بالسكان والغارقة في حصار مطبق، وارتفاع عدد الضحايا في الجانب الفلسطيني إلى أكثر من 5000  شهيد، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء.

يوسف جعان وعايز ياكل

بدأت تلك القصة بالطفل يوسف، الذي طلب من والدته الطعام، وسط القصف والدمار في كل مكان قائلا: ماما أنا جعان يمّا، بدّي آكل"، لترد الأم: "متخافش حبيبي، راح اعمل لك قلّاية بندورة".

خرجتُ الأم إلى منزل جارتها، بحثًا عن حبّتي طماطم لإسكاتِ جوع يوسف، حيث أوصته أن يغلقَ البابَ جيّدا ريثما تعود، خاصة أن والده في المستشفى يؤدي واجبه، ولا أحد بوسعهِ الذهاب غيرها، وتركته داعية الله أن يحفظه.

طرقت أم يوسف باب جارتها أم محمود عدّة مرّات، لكن لم يجبْ أحد، فذهبت إلى منزلِ آل المقداد، على الطرفِ الآخر من الشّارع، وكلّها أملٌ أن تجد حبّتي طماطم ليوسف، حيث تخشى من الابتعاد عنه.

حلت خيبة الأمل على أم يوسف، لأن بيت ال المقداد لم يعد فيه شيءٌ يؤكل، أيامُ الحرب الصعبة قضت على كلّ شيء، ورغم ذلك دار حديث سريعا بين أم يوسف وجارتها: "كيفك يمّا، وكيف أولادك، انشالله ما وصلكم القصف ؟"، لترد الجارة: "والله منيحة، زي ما بتشوفي، الله يسترها علينا".

السؤال عن حبتي طماطم

تردّدتُ أم يوسف في سؤال أم مقداد عن الطماطم، لكنها تذكرت جوع صغيرها وسألتها عن الطماطم، خاصة أنها تعلم أن النّاسُ في الحربِ لا تملكُ ترفَ الأحاديث المطوّلة، حيثُ بوسعِ كلّ ثانيةٍ أن تكونَ الأخيرة.

أحضرت أم مقداد حبتي الطّماطم بسرعة، وودّعتُ الحاجة عائدة إلى طفلها بسعادة، كمن وجدت كنزا، ولم لا وهي ستطعم فلذة كبدها إلى حين أن يرزق الله بغيره.

صوت انفجار يصم الآذان

عادت أم يوسف إلى طريق العودة للمنزل مصحوبة بدعوات أم مقداد، بأن تتحسن الظروف وتعود الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة، وأن يسترها الله على الجميع، وأنها مجرد أزمة وبتعدّي بعون الله.
انفجار

قطع صوت السيدة الذي يتردد في أذن أم يوسف صوتُ انفجارٍ كبير، وشاهدت سحابةً سوداء حجبت كلّ شيءٍ، أصيبت بالصمم المؤقت بسبب قوّةِ الانفجار، لكنّ شيئا واحدًا كان يشغلُ بالها، هل يوسف بخير أم لا ؟.

ركضّتُ نحوَ الشّارع وهي تصارعُ لأخذِ نفسٍ بسبب الأتربة والدّخان، زحامٌ كبير في مكان القصف، والكلّ يصرخ ويساعدُ المسعفين لأخذِ الضحايا، وكأنها أهوالُ القيامة.

ظلت أم يوسف تصرخ: "ياجماعة شفتو يوسف؟ فيكم حدا شاف ولد صغير هون ؟"، وجاء الرد: "يما والله ما بعرف، المصابين راحوا على الشفا، إلحقيهم هناك".

تذكرتُ والدة أم يوسف أن زوجها أبو يوسف، يعملُ هناك طبيبا، لم يعد للمنزلِ من بداية الحرب، ركبتُ في سيارة الإسعاف للمستشفى، وهي تتذكر آخر لحظةٍ قبل إغلاق باب السيارة، البابُ الذي اغلقتهُ على يوسفْ، والذي لم يعد موجودا.

تذكرت أنها كنتُ خائفة من أخطارِ الأرض بغريزة الأم الفطرية، فأوصدتُ الباب، كيفَ لأم أن توصدَ الخطرَ القادم من السمّاء ؟ حتى الخوفُ في الحروبِ يصيرُ مختلفا.

في الطّابق الثاني من مجمّع الشفاء، صادفتُ أم يوسف والده، ببدلتهِ الخضراء، مرهقًا من أيامِ الحربِ ودوامِ العمل الذي لا يتوقّف، لقدْ وهب حياتهُ للنّاس تلبيةً للواجب.

يوسف يوسف.. لم تستطع النطق بأكثر من ذلك ليفهم الأب سبب وجودها، خاصة أن الناس لا يأتون للمستشفى للتنزّه.

رحلة البحث عن يوسف

بدأت رحلةُ البحث عن يوسف، والأم تسأل كل من يقابلها: "يوسف 7 سنين، أبيضاني وحلو"، وظلت تكرّر الأمر على كل من تصادفه، طبيبا أو صحفيا أو مصابا، لا يهم، كل ما تريدهُ هو معرفةُ مكان يوسفْ.

فلاش باك لفلذة الكبد

بعدَ عدّة أدوارٍ، والبحث في عدّة غرف تعبت أم يوسف، حاولتْ قدماها رفعها لكنّ خوفها كانَ أثقل، فارتمتُ على أقرب مقعد.

انهيار والدة الشهيد

ذهبَ أبوه يبحث، ومرّت حياةُ يوسفَ أمام عيني أمه، رزقتُ به بعد سنواتٍ من الزواج، كان بمثابةِ النّعمة في حياتها، لكنّه كان جميلًا كالقمر، فعوّض وجودهُ كلّ حرمان، فسمتهُ يوسف، ربّتهُ وكانتُ تتنفسُ به، كلّ يومٍ من حياتها كان سعادةً جديدة، وهي ترى يوسف يكبرُ بين يديها، صار يوسفُ يلعبُ ويتكلم، وحانَ وقتُ دخولهِ للمدرسة هذه السنة، لقدْ كان ذلك صعبًا عليها، كيفَ سيكون بوسعها أن تفارقهُ لثمانِ ساعاتٍ كلّ يوم، انتظرته أمام البابِ كلّ يومْ، تستقبله بحضنها وبقلاية البندورة التّي يحبها.

صدمة.. رحل يوسف وهو جائع

"اتركوني لوحدي"، قطعت الجملة بصوت أبو يوسف الموجوع، استرسال ذكريات أم يوسف، فقفزتُ نحوه وهي تصرخ: "يمكن ما يكونش هوّ"، كانت محاولة يائسة، خاصة انه ولدهُ ويعرفه، لايخطئ الأب في توقّع مستقبل ابنه، فكيف بالتعرف على ملامحه.

عاطفةُ الأم أخبرتها، ان كل شيء انتهى، أردّتُ لحظة وداعٍ أخيرة لكنّهم منعوها، أرادوا منّها أن تحتفظَ بصورته الجميلة في مخيلتها، يوسف الأبيضاني بشعره الكيرلي، قبلَ أن تشوهه الصواريخ.

حزنها كأمّ غيرُ قابلٍ للترجمة، فكيف تعبّر وكيفَ تشرح سنينوات صبرها لقدومِ يوسف، لقد كان يوسف العطاء الذّي عوّض حرمانها، فمن يعوّض حرمانها من يوسف ؟.. لقد ربّته بحبّ، حرمتُ نفسها لتعطيه، وتحمّلتُ الألم والمعاناة ليعيشَ كطفلٍ طبيعي كباقي الأولاد، أغلقتُ عليه الباب لتحميه، فرحل هو والباب، كيفَ للأم أن تحمي ابنها في الحرب، وظلت أم يوسف جالسة على حطام المنزل تنتظر يوسف ليعود من المدرسة كلّ يوم، وكيفَ لها أن تنتظر بعد الآن ويوسف لم يعد موجودا؟.. لقد رحل يوسف وهو جائع.