أمير منصور… حين يُدفن المستقبل في يوم ميلاده

في عصرٍ حزين من أيام الحرب، دوّى القصف فوق مدينة غزة، فحوّل لحظة عادية إلى مأساة لا تُحتمل. في ذلك اليوم، الذي كان يصادف عيد ميلاد الطفل أمير، لم يحتفل والده الأكاديمي الدكتور شادي منصور، ولا والدته المربية القديرة، بل وجدا نفسيهما يفتشان بأيديهما المرتجفتين بين الركام عن فلذة كبدهما.
صوت الأب كان يتقطع وهو يصرخ: «ابني… وين أمير؟!». لم يكن يرى إلا بعينيه المغرورقتين بالدموع أن طفله، الذي كان من المفترض أن يطفئ شمعة ميلاده، قد انطفأ هو نفسه تحت الحجارة الباردة.
طفل بذكاء مبكر
كان أمير البكر، الأذكى بين إخوته، صاحب أسئلة كبيرة وابتسامة لامعة. يقول والده الدكتور شادي: «كنت شايف فيه المستقبل… كنت أحلم أدرسه وأخليه يبني اللي ما قدرت أبنيه».
أما والدته، مدرسة التربية، فكانت ترى فيه امتدادًا لحلمها أن تُخرج جيلًا من المتفوقين. كانت تقول دائمًا: «أمير مش عادي… عنده نظرة ما بتشبه نظر الأطفال».
حصار يلتهم الحياة
الحرب لم تكتف بالقصف؛ الحصار صنع موتًا آخر بطيئًا. العائلة الأكاديمية التي عاشت سنوات في الغربة عادت للوطن لتواجه جوعًا وحرمانًا يوميًا. «الحصار قتلنا قبل ما يقتلنا القصف»، قال الدكتور شادي، وهو يروي كيف كان يهدئ أطفاله الجائعين في ليالٍ طويلة.
رفض النزوح
مع كل نداء من الاحتلال بالنزوح إلى الجنوب، كان شادي يرد: «النزوح موت… موت الروح». بقي في مدينته غزة، مصرًّا أن البقاء فعل مقاومة، وأن الرحيل خيانة لدماء من سبقوه.
هدنة وُلدت ميتة
في يناير، حين أُعلن وقف إطلاق النار، بدا وكأن الليل الثقيل قد انزاح قليلًا. جلس الدكتور شادي مع أطفاله، احتضن أمير، وقال بابتسامةٍ نادرة: «أخيرًا يا ضناي… يمكن بكرة نعيش يوم عادي بلا خوف».
لكن الفرح لم يعش طويلًا. في مارس، عاد القصف أشد، وانهار كل شيء من جديد.
عصر الميلاد والموت
في ذلك العصر، حين استهدفت الغارة المربع السكني، أصيب الدكتور شادي بجروح، لكنه رفض العلاج. كان صوته يختنق وهو يصرخ: «ابني تحت الردم… طلعولي أمير!».
المفارقة الموجعة أن اليوم الذي استشهد فيه أمير كان يوم ميلاده، اليوم الذي كان من المفترض أن يحمل إليه والده هدية أو كعكة صغيرة. لكنه حمل إليه نعشًا أبيض وصمتًا أبديًا.
وداع يقطّع القلب
حين انتُشل جسد أمير أخيرًا، حمله والده بين ذراعيه كما لو كان يحمل قلبه. دموعه انهمرت على جبينه المغبر. قبّله وهمس: «سامحني يا ضناي… كنت بدي أشوفك تكبر وتبني وطنك».
الجنازة كانت مشهدًا يفوق الخيال. نعش صغير يتقدمه أب أكاديمي مكلوم، وأم مربية تبكي بصمتٍ حارق. لم يكن وداعًا لطفل فقط، بل وداعًا لحلم بأكمله.

التوثيق الأممي
ليست مأساة أمير استثناءً. وفقًا لتقارير اليونيسف، قُتل أو جُرح أكثر من 50 ألف طفل في غزة منذ اندلاع العدوان، فيما تؤكد الأمم المتحدة أن طفلًا واحدًا على الأقل يموت كل يوم. وزارة الصحة في غزة أوضحت أن ما يقارب ثلث الضحايا من الأطفال.
هذه الأرقام، التي قد تبدو باردة، تتحول هنا إلى وجوه وأسماء: إلى قصة أمير، الطفل الذي وُلد بين والدين من أهل العلم، فخطف الاحتلال روحه في يوم ميلاده.
أمير لم يكن مجرد طفل، بل مستقبلًا وُلد بين عائلة علم، فدُفن في يوم ميلاده بين الركام. قصته تراجيديا كاملة: والد أكاديمي، وأم مربية، وابنٌ كان يحمل بريق الغد، فإذا بالاحتلال يقتله ويحوّل يوم ميلاده إلى يوم شهادته.