غزة... العودة إلى الركام والحلم بالحياة

لم تكن عودة النازحين إلى غزة مشهدًا للفرح بقدر ما كانت عودة إلى مدينة لا تشبه ذاكرتهم عنها.
عادوا بخطواتٍ مثقلةٍ بالرماد، يبحثون في الأنقاض عن بقايا منازلهم، عن صورةٍ لم تحترق، أو عن بابٍ يعرفونه بين الركام.
الحرب توقفت، نعم، لكن الحرب الحقيقية بدأت الآن — حرب البقاء بعد الإبادة.
في شوارع المدينة التي كانت تضج بالحياة، يسير الناس بين الأطلال كمن يزور مقبرة واسعة.
كل حجر يحمل حكاية، وكل جدار يتكئ على صمتٍ عميق.
غزة لم تعد كما كانت؛ تحولت إلى متحف مفتوح للوجع، يقرأ فيه العائدون أسماء أحبّتهم على الحجارة بدلًا من أن يلقوهم عند الأبواب.
العودة هنا ليست انتصارًا، بل محاولة لتعلّم العيش وسط الفقد.
النازحون الذين كانوا يحلمون بالأمان لا يتحدثون عن السياسة.
فقد تعلموا أن السياسة تُحيل المدن إلى رماد، وأن النجاة هي السياسة الوحيدة الممكنة.
تدور الأحاديث حول الأمنيات البسيطة: أن ينام الأطفال دون خوف، أن يعود الماء والكهرباء، أن تُفتح المدارس.
لكن خلف هذه الأمنيات الصغيرة يختبئ حلمٌ أكبر: أن تكون هذه آخر الحروب.
تبدو غزة اليوم جسدًا يتعلم المشي من جديد بعد بترٍ مؤلم.
شباب ينظفون الشوارع بأيديهم، نساء يوزعن الخبز والماء، وأطفال يرسمون الشمس على الجدران المهدّمة كأنهم يصرّون على أن النور سيعود.
المدينة تحاول أن تُشفى لا لأنها قادرة، بل لأنها لا تعرف معنى الاستسلام.
فغزة التي احترقت أكثر من مرة تعرف كيف تنهض، وإن كان النهوض مؤلمًا كالنزيف.
ربما لن تُبنى البيوت قريبًا، وربما سيطول انتظار العدالة، لكن العودة بحد ذاتها فعل إصرار لا استسلام.
العائدون لا يبحثون عن المعجزات، يكفيهم أن يبقوا في مدينتهم مهما كانت مهدّمة، لأنها — كما قال أحدهم —
> “مدينة تحبنا رغم كل ما فعلوه بها.”
غزة اليوم ليست خبرًا في نشرات المساء، بل حكاية الإنسان حين يُهزم ولا ينكسر.
تعود لتقول للعالم:
نحن هنا، على هذه الأرض التي لا تُنسى، نحمل ذاكرة الموت ونزرع فيها الحياة من جديد.