هل كانت الحرب تستحق؟،، غزة تحت الأنقاض والمدنيون يدفعون الثمن الباهظ

هل كانت الحرب تستحقُّ الثمن؟ هذا السؤال يفرض نفسه بقوة أمام مشاهد ما تبقّى من حياةٍ في غزة بعد الهدنة: أحياءٌ متهاوية، طرقات تخلو من ضوضاء الحياة الاعتيادية، وناسٌ يعودون ليجدوا بيوتهم ركامًا أو مجرد ذاكرةٍ على هيئة حوائطٍ متصدعة. أمام هذا المشهد لا يكفي الحساب العسكري أو الحديث عن أهداف استراتيجية؛ يجب أن يكون التحليل إنسانيًا أولًا وأخيرًا.
بعد عامين من المعاناة انتهت الحرب التي اندلعت في غزة في 7 أكتوبر 2023 (بعملية «طوفان الأقصى») هذا الأسبوع باتفاق وقف إطلاق النار في مؤتمر شرم الشيخ. ساد مشهد مختلط من الفرح والحزن لدى سكان القطاع: فقد عاد آلاف الفلسطينيين إلى منازلهم المدمرة، واحتفت فئات واسعة بانتهاء القتل والتشريد، بينما خيّم الحزن العميق على فقدان الأقارب والأصدقاء. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن حصيلة قتلى الحرب تجاوزت 67 ألفًا
، بينما بلغ عدد المصابين نحو 170 ألف شخص. الغالبية العظمى من هؤلاء الضحايا كانوا من المدنيين، والكثير منهم من النساء والأطفال
. وقد أكدت مصادر طبية محلية مقتل نحو 20 ألف طفل
، بينما أوردت منظمة الصحة العالمية أن نحو 42 ألف إصابة دائمة وقعت بين الجرحى
. وتشكل هذه الأرقام كابوسًا يوميًا في أذهان الغزيين الذين لا يزالون يتساءلون بمرارة: «هل كان كل هذا الثمن يستحق النتائج؟». إن مشاعر الترقب والحزن تغلب في غزة اليوم على أي شعور آخر؛ فالصدمة التي تركتها هذه الإحصاءات مفروضة بقسوة على حياة الجميع.
لا يبدو في غزة شيء كما كان من قبل. فالدمار شمل كل شيء: المنازل والمدارس والمستشفيات وغيرها من البنى التحتية. فقد أعلنت هيئات دولية (البنك الدولي والأمم المتحدة) أن تكلفة الأضرار فاقت 18.5 مليار دولار
، وأن حوالي 84% من المنشآت الصحية تضررت أو دمرت
، كما خرج كل طفل من المدارس نتيجة دمار النظام التعليمي
. وتشير التقديرات إلى أن نحو 90% من المنازل قد تصدعت أو انهارت بالكامل، ما ترك نحو 1.9 مليون فلسطيني بلا مأوى
. وترتب على ذلك أوضاع كارثية؛ إذ اضطر ثلاثة أرباع السكان إلى النزوح قسريًا من منازلهم أثناء القتال
. كما أودت الحرب بحياة نحو 565 من العاملين في الإغاثة الإنسانية
، بينما قضى 463 فلسطينيًا (منهم 157 طفلًا) جوعًا أو بسبب مضاعفات صحية نتيجة الحصار
. كما زادت الحرب من تفاقم الوضع الإنساني المأساوي، فحتى المساعدات والطواقم الطبية لم تسلم من القصف.
من قلب هذا المشهد المروع تنبع شهادات الأهالي، حاملةً ألم الخسارة وآمالهم المنكسرة. تقول رجاء سلمي (من سكان غزة) بصوتٍ متهدج: «وقفت أبكي أمامه... كل الذكريات تحوّلت إلى غبار» عند رؤيتها منزلها الذي أصبح «مجرد كومة من الركام»
. أما أحمد الجعبري فثمة تعابير القهر في صوته حين يروي: «منزلي، الذي بنيناه قبل 40 عامًا، دُمر في لحظة... وأنا سعيد لأنه لا دماء ولا قتل، (ولكن) إلى أين سنذهب؟ هل سنعيش 20 عامًا في خيمة؟»
. تلخص كلماتهم الشعور السائد بأن لا شيء سوى الدمار بقي من غزة القديمة، وهو ما يعكس الحيرة العميقة حول جدوى هذه الحرب. كما تعكس شهاداتهم تحولات عميقة في نظرة الغزيين للصراع، إذ بدا الانتصار بعيدًا عن الواقع.
في الختام يظل السؤال ذاته مترددًا على ألسنة الجميع: هل كانت هذه الحرب تستحق كل هؤلاء الضحايا والدمار؟ ورغم ارتياح الناس لوقف العنف، فإنهم يُجمعون على أن الثمن المدفوع كان باهظًا فوق أي مكسب تحقق. ولا يزال كثيرون يعلقون آمالهم على أن تحمل هذه الهدنة بداية حقيقية نحو السلام واستعادة الحياة الكريمة. ولا يزال الشاغل الأكبر هو ما إذا كان بإمكان غزة بناء واقع أفضل بعد هذه الحرب، أم ستبقى جراحها عميقة دون حل. وحتى ذلك الحين، تواصل غزة ترميم نفسها من تحت الأنقاض، حاملةً آلام الماضي وتطلعات إلى غد أفضل، ويبقى السؤال نفسه مطروحًا: هل كان هذا الثمن المدفوع حقًا يستحق النتائج؟